يتم التشغيل بواسطة Blogger.

المعزبون في الأرض

بواسطة جزيرتــــــــــــــــــــــــي يوم القسم : 1 التعليقات

رفيقي سعيد من أشد المتعصبين “للعزوبية” كنا نلقبه بـ “سعيد الوحيد”، عهدته مذ تعارفنا قبل سنوات - حين كنا في ذات الكلية بالجامعة – متهكماً على كل من يتزوج من رفاقنا ناعتاً إياه بالسذاجة والحمق كونه كمن يدفع “تحويشة العمر” مقابل أن يُسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة. ولازلت حتى اليوم أتذكر محاضراته المطولة عن مساوئ الارتباط الأسري ووصفه المخيف للحياة الزوجية، حتى تعتقد حين يحدثك عنها بأنه بصدد إخراج جزء جديد من سلسلة أفلام الرعب SAW.

ورغم أني لست من مؤيدي “حزب سعيد الوحيد” إلا أن أفكاره وطروحاته - من باب الإنصاف - لا تخلو من منطق وبرهان، ربما لأنها حصيلة بحث وتحليل لتجارب عديدة عمل على جمعها ودراستها بشكل متأن حتى يفند بها أقاويل دعاة الزواج حين تجمعه بهم مجالس النقاش. وكانت لازمته التي يكررها دوماً تقول : ” العازب أمير والمتزوج غفير”، مؤكداً مقولة أن لكل شيء حظ من أسمه وأن والدته اختارت تسميته سعيداً وأنه بروراً بها لن “يتعس” حياته بالزواج.


دارت ناعورة الزمن وفرقتنا سبل الحياة ومطالب الرزق، وانقطعت عني أخباره لفترة طويلة، قبل أن نلتقي مصادفة منذ أيام، ولولا نبرة صوته المميزة حين مناداته لي لما عرفت بأن صاحب هذا الوجه الشاحب المغبر الذي غيرت أخاديد التجاعيد ملامحه هو “سعيد الوحيد” الذي لم تكن البشاشة تفارق محياه.

ما إن رأى سعيد أمارات الاستغراب بادية علي حتى بادرني بالقول دون سؤال أن سعادته التي كان يتباهى بها انقلبت شقاء بعد أن سافر إلى إحدى الدول العربية باحثاً عن عمل، حالماً بأن يعزز سعادته الاجتماعية العازبة بمكاسب مادية يجنيها من غربته في بلاد الخيرات.

يقول سعيد: ” لقد اكتشفت بأنني شخص منبوذ وإنسان - لا أقول من الدرجة الثانية - بل غير مصنف أصلاً على سلم المجتمع هناك، فما إن يُعلم بأنك غير متزوج وأتيت لهذه البلاد وحيداً دون خليل، حتى ينفر منك القوم وكأنك مجذوم، وترمقك أعين الارتياب والتخوين من كل جانب، وكأنها تصرخ في صمت : احذر أمامك عزابي !! “.

أمضى سعيد عامين في تلك البلاد كأنهما الدهر كما يقول، لم يستطع أن يجد سكناً ملائماً لأنه عازب والعمارات التي بقرب مكان عمله مخصصة للعائلات، مما أضطره لدفع نصف راتبه شهرياً كمواصلات. وفي يوم إجازته الأسبوعي كان يبقى مرغماً في غرفته الضيقة التي أستأجرها في حي عشوائي في ضواحي المدينة تسكنه أقليات وجاليات غريبة عنه، لأن الأسواق والكورنيش والحدائق والمجمعات محجوزة في هذا اليوم للعائلات والمتزوجين. والويل لـ “السينغل” الذي تسول له نفسه الاقتراب من المكان.

وفي المطعم كان سعيد ينتظر لساعات حتى يخلو كرسي في المكان المخصص للعزاب رغم أن قاعة العائلات الفسيحة خاوية على عروشها، وذات الأمر في المصالح الحكومية والمستشفيات والبنوك ومواقف السيارات وقاعات السينما وحتى الحمامات العامة كل هذه الأماكن الأولوية فيها للمتزوجين.

ولم يسلم راتب سعيد وعلاواته من لعنة العزوبية، فما يتقاضاه زميله الذي يتقاسم معه نفس المكتب ويقوم بذات المهام أعلى من راتبه لأنه متزوج، بل إن العلاوات التي تضاف إليه كعلاوة السكن العائلي وتذاكر السفر للزوجة والأولاد وعلاوة مدارسهم تقفز به إلى أضعاف الراتب الأساسي الذي يتقاضاه صاحبنا سعيد دون علاوات لأنه عازب “وما بيصرف على حدا!!”.

لم يطق سعيد المرهف الإحساس - الذي طالما كان همه الأول والأخير أن يبقى اسماً على مسمى – العيش على هذه الحال، ولم يستوعب الأسباب التي تجعل من إنسان محترم ومتعلم وملتزم بالقيم الأخلاقية الفاضلة متهماً حتى تثبت براءته لا لشيء إلا أنه غير متزوج بغض النظر عن الأسباب التي دفعته لهذا “الجرم” الذي لا يغتفر، وقرر العودة إلى البلاد التي وإن بخلت عليه بالمال إلا أنها أعطته الحرية وراحة البال ليبقى سعيد وحيداً كما كان إلا أنه على الأقل سعيد.

1 التعليقات :

محمد لبيهي يقول...

ماشاء الله عليك اخي محمد سيدي، جعلت من قصة صاحبك قطعة ادبية و موعظة اخلاقية وتبصرة اجتماعية..بورك في قلمك لم اندم حقيقة على زيارة مدونتك و اعجبتني على العموم..و اعتز بانها من ابداع بيضاني متعدل، في ما يبدو لي ان صحت فراستي..شنقيطي حجازي حرمي ..نعم البقاع و نعم الاهل ..ارجو لك التوفيق و السداد ان شاء الله.. و لعلنا نلتق يوما ما ان شاء الله..دمت في رعاية الله..

تصميم وتطوير منتديات سامي