يتم التشغيل بواسطة Blogger.

ثورة المنابر

بواسطة جزيرتــــــــــــــــــــــــي يوم القسم : 3 التعليقات
 
 
يختار دائما مكانا قريبا مني في الصف، وإن لم يجد متسعا كان يحرص على أن يحييني بوجهه الباسم عند باب المسجد. عزمت اليوم على أن أتحدث معه وأتعرف عليه أكثر، ملامحه تشي بانتمائه لإحدى الدول الآسيوية التي يعمل الكثير من ابنائها في هذه البلاد. لم يتأخر كعادته، أفسحت له مكانا بقربي، وتبادلنا التحية قبل أن يعتلي الإمام المنبر، سألته عن اسمه، لكنه لم يجب! ربما لا يتحدث اللغة العربية، سألته بالإنجليزية، قال إن اسمه: محمد، ولا يجيد الحديث بغير لغة المالبارية المنتشرة في شرق آسيا. هز رأسه وشكرني، وقاطعنا المؤذن معلنا بدء الخطبة.
 
 سن القائمون على جامعنا سنة حميدة منذ إنشائه، حيث يدعون خطيبا من أئمة وشيوخ المسلمين كل جمعة، كان الإمام اليوم شيخا مسنا، عرفت من لباسه أنه ليبي، خطب ارتجالا، بعبارات سلسلة تجنب فيها حوشي اللغة، وقدم لها تقديما مختلفا عما عهدناه على منابرنا -فالخطب تشابهت حتى لا تكاد تفرق بينها إلا بنبرة صوت الإمام- لم يغرق في السجع وتنميق العبارات، وأفلح في جذب انتباه الحاضرين، كان جهور الصوت، يرفعه عاليا في مواضع الوعيد، ويخفت به في مواضع الرفق والبشارة.
 
مهد لموضوعه الرئيسي بقصة الشيخ التابعي فضيل المؤثرة، الذي كان قاطع طريق يسطو على القوافل. قص الخطيب الحكاية بأسلوب مميز، ومع أني متأكد أن أغلب الحاضرين سمعها من قبل مرات كثيرة، إلا أن مسامعهم انساقت له طائعة، ليأخذ قيادها لموضوع الخطبة الرئيسي.
لم أتوقع أن يكون موضوع خطبته عن ثورة سوريا، التي أكمل أهلها اليوم ثلاث سنين من معاناة التنكيل والقتل والتشرد. وصف الشيخ بكلمات بسيطة حال أهلنا هناك، راسما بعباراته وجه طفل جائع، كوى زمهرير البرد القارس جلده الغض، ونقلنا ببلاغة تعبيره إلى حارات مخيم اليرموك المدمر، وتركنا هناك لدقائق، نشتم رائحة البؤس والموت التي تفوح من الأزقة.

 
تعالى البكاء من حولي في المسجد، وكلما رفع الخطيب صوته زاد النحيب أكثر، كان مشهدا مهيبا، لم أر مثله في جامعنا. ما الذي تغير!؟ نفس الوجوه، وذات المكان!
 من أين أتى هذا الشيخ الطاعن في السن بهذه القدرة على التأثير؟
 أسئلة تزاحمت في رأسي، رأيت إجابتها في عبارات الخطيب الذي يخيل إليك حين يرفع صوته أنه استحال شابا ثائرا، عاد لتوه من ميمنة جيش خالد في معركة اليرموك.
رأيت في أعين المصلين المغرورقة بالدموع أسفا على أمة مسلوبة الكبرياء، فقد استطاعت كلمات الخطيب الدكتور سالم مفتاح جابر -المعروف بخطيب الثورة الليببية- أن تنقل لهم صورة بلا رتوش للوضع في سوريا.
نحن بحاجة لثورة منابر، تهزنا بعنف لتوقظنا من السبات، فالمنابر كانت دائما مقياسا يصف حال الأمة، إبان عزتها ونهضتها، وفي أيام تشرذمها وهوانها على الناس.
 
الخارجون من الجامع اليوم بعد هذه الخطبة، ليسوا مثل الداخلين إليه قبلها، تغيرت ملامحهم واهتماماتهم في ظرف زمني لا يتجاوز دقائق قليلة. حتى محمد البنغالي رأيته من بعيد يزاحم المتجمهرين حول صندوق تبرعات على باب الجامع كتبت عليه عبارة: لا تنسوا إخوانكم في سوريا.
 


3 التعليقات :

انتيكات يقول...

مواضيعك دايما رائعه

شركة نقل اثاث بالرياض يقول...

موقعك رائع

شركة تنظيف فلل بالرياض يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
تصميم وتطوير منتديات سامي