
لم تدمر الصواريخ والقنابل الإسرائيلية - التي تمطر غزة منذ عدة أيام- البيوت والمساجد والمدارس فقط، بل نسفت نهائياً أكذوبة العروبة، التي لم تعد تنطلي على أصغر طفل من أطفالنا، فبعد أن ملأت هذه الكذبة الكتب والمناهج التعليمية والخطب والشعارات السياسية منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، وبعد أن أنطلت علينا - وعلى أبائنا - لكثرة ما سمعنا عن القومية والأمة الواحدة الممتدة من المحيط إلى الخليج - ذات الرسالة الخالدة!!- وغيرها من العبارات التي أصمَّتنا طوال قرن من الزمن، إنهار اليوم في غزة آخر عمدٍ من صرح الأكاذيب الهش.
تلكؤ وحنحنة ...ثم إعتراض!؟
حتى القمم العربية الهزلية التي لا تتعدى بياناتها سرد عبارات التنديد والشجب والتعاطف والمؤازرة على الورق، بخلوا بها على أهل غزة. وبلغت الصفاقة ببعض رؤساء هذه المنطقة – التي يجب أن يبتدع لها وصف غير المنطقة العربية – أن يعلن بأن غزة ستظل محاصرة حتى لو أصبحت أثراً بعد عين، لأنه ملتزم بمعاهدات ومواثيق دولية!.
وحين طلبت قيادة أخرى عقد قمة عاجلة لبحث الوضع – والبحث عادة في هذه القمم لا يتعدى تحديد الدولة التي سترسل بطانيات ومن سيرسل الطحين!!- صمت صاحب الجلالة وتلكأ الزعيم وتحنحن الجنرال، قبل أن يعترض الريس صراحةً، لأنه لن يقبل بأن تعري دولة صغيرة مواقفه "القومية"، أو أن تسحب البساط من تحت أقدام "ماما"!.

وفي حين اجتمع وزراء الخارجية في الاتحاد الأوروبي - الذي لا تجمع بين دوله لا لغة ولا دين ولا عرق- بعد القصف بيومين مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار، وقدم نيكولا ساركوزي رئيسه الدوري خطة هدنة ليومين، معرباً عن استعداده للسفر إلى تل ابيب للقاء السياسيين الإسرائليين ومنها إلى رام الله ليقابل الرئيس الفلسطيني، انتظر وزراء خارجية الجامعة العربية أن تُغرق الدماء ثلاثة أرباع قطاع غزة ليلتقوا في القاهرة لقاء الغرباء!.
وبلغ الإفلاس السياسي العربي مبلغه حين تحولت عاصمة الأتراك إلى قبلة جديدة ييممها المسئولون العرب بحثاً عن حلول ووساطات لعل وعسى أن ينجح أردوغان في إقناع "المحور العربي المعتدل" بالجلوس على طاولة واحدة مع "المحور العربي المنحرف"، ولو لالتقاط الصور!
إقطعها ..وتوكل!
حتى "آخر العنقود" الجنرال الموريتاني الجديد - الذي لم تنبت بعد أسنانه اللبنية في السلطة - لم يتكلم ولم يعترض ولم ينبس ببنت شفة، رغم أن كل الظروف الداخلية والخارجية تساعده على إزالة بقعة الدرن سماوية اللون التي تشوه بياض "الدراعة" الموريتانية منذ تسع سنوات.
حتى إحراق العلم الموريتاني أمام كاميرات التلفزيون في نقل مباشر – بعد إقتحام المتظاهرين للسفارة في طرابلس – لم يحرك في "المنقذ بأمر الله" شعرة واحدة، والشجاعة التي تحدث عنها في خطاباته وعدم خوفه من العقوبات الخارجية - لأنه مدعوم من أبناء الشعب ولا يخشى الوغى !- لم تمكنه من إستدعاء سفير إسرائيل المختبيء في مكان ما من نواكشوط لبضع دقائق للإحتجاج ولو شفهياً!.

ووصل الأمر بأحد أقطاب المعارضة وقياديي الجبهة المناهضة للانقلاب إلى الإعلان عن استعداده لمؤازرة الجنرال ورفاقه الانقلابيين جهاراً نهاراً إن هو قطع علاقات البلاد بإسرائيل، بل إن الشعب الموريتاني برمته سيؤيد بالإجماع تنصيب الحجاج بن يوسف الثقفي رئيساً إن هو أزال هذا العار الذي لحق بكل الشناقطة في مشارق الأرض ومغاربها.
وأكتفت السلطات الحاكمة في نواكشوط بعدم إعتراض المتظاهرين ممن يجوبون شوارع المدينة ليل نهار تضامناً مع أهلهم في فلسطين - من باب التنفيس لتفادي الإنفجار- وأُطلقت شائعات في الشارع المحلي تتحدث عن نية الجنرال إنهاء التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي خلال إنعقاد القمة العربية – ربما ليقينه بأنها لن تعقد!- لكنها تبقى شائعات لا تعززها أدلة.
من قال إن العرب إخوة؟!
إحدى القنوات الفضائية العربية وكنوع من التعبيرعن التضامن مع أهالي غزة تبث أغنية جماعية بعنوان "الضمير العربي"، تقول مقدمتها إن العرب إخوة!!
لكني لا أصدق أن هذه الأجيال التي تعيش حالياً هي فعلاً من بقايا سلالة العرب، ولا أتقبل أن من بين هؤلاء أحفاد المعتصم أو أبناء الفاروق، ولا يوجد دليل واحد على أن الدماء التي تسري في عروقهم هي ذاتها التي كانت تسري في شرايين جند صلاح الدين أو رجال خالد بن الوليد.
ومخيلتي لا تستوعب أن هؤلاء اللائي يتراقصن شبه عاريات ويتمايلن في حفلات العام الجديد لهن أدنى صلة بخولة بنت الأزور أو نسيبة بنت كعب أو حتى دلال المغربي...وعندما نعيد النظر في واقعنا البائس ندرك أن الإسرائليين رحماء وقلوبهم تقطر عطفاً لأنهم لم يبيدونا عن آخرنا فلن يبكي هذه الأمة المتخاذلة أحد!.