
بينما أنا جالس أمام التلفزيون أمارس طقوس التعذيب المعتادة على الريموت كنترول المسكين، الذي "دوخته" من كثرة ما تنقل بين قنوات العالم بغثها وسمينها، والتي لا يجمع بينها سوى الفضاء. أدهشني خبر مر مروراً سريعاً أمام ناظري في شريط الأخبار – الذي لا ألقي له بالاً عادة – يقول الخبر : صادق الرئيس الأميركي جورج بوش على شطب اسم الرئيس الجنوب إفريقي الأسبق نيلسون مانديلا وزعيم حزب المؤتمر الإفريقي من لائحة ما يسمى بالإرهاب!!
نيلسون مانديلا - الزعيم الإفريقي الذي أصبح رمزاً للحرية ومقاومة الاضطهاد بعد أن عاش 27 عاماً في غياهب زنزانة فردية في سجون نظام الأبارتايد العنصري، لا لذنب اقترفه سوى مناهضته للتفرقة واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان - إرهابي؟؟
لم أصدق عيناي، وقرأت الخبر مرات ومرات، ولكنني أقنعت نفسي أخيراً بان في الأمر خلطاً ما، فربما يكون المسئول عن كتابة الشريط وضع الاسم سهواً، أو أصابه النعاس بعد أن أنهكه يوم طويل من متابعة أخبار العالم "المقرفة". انتظرت النشرة المفصلة لأسمع تفصيل الخبر الذي جاء على النحو التالي : الكونغرس الأمريكي أرسل مسودة قرار إلى البيت الأبيض لتوقيعها بالتزامن مع عيد الميلاد التسعين لمانديلا الحائز جائزة نوبل للسلام وبطل مكافحة الفصل العنصري والذي كان أول رئيس اسود لجنوب إفريقيا من 1994 إلى 1999. حينها تأكدت بالفعل أنني أعاني من اختلال لغوي خطير في تفسير الألقاب وتقدير معانيها، فربما أصبح لقب "إرهابي" يطلق من باب التفخيم وتقدير الشخصية التي توصف به، لأنه من غير المنطقي أن يكون مانديلا إرهابياً، ومن غير المنطقي أن تنتظر الدولة العظمى والقطب الأوحد في العالم أن يصل هذا "الإرهابي" لسن التسعين حتى تدرك أنها كانت مخطئة !
ولعل تزامن إعلان السلطات البريطانية قبل أيام عن إدراج الجناح المسلح لحزب الله في قائمة الإرهاب واستثناء الجناح السياسي للحزب من هذا الوصف، مع خبر مانديلا يعطي للمتتبع فكرة أوضح عن مدى ضبابية هذا الوصف الذي يفرق بين جناحين في حزب واحد !!
وليضعنا هذا الموضوع أمام إشكالية تعريف الإرهاب التي برزت بشكل لافت في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، حين أعلن بوش أن الحرب "المقدسة" على الإرهاب بدأت ولن تضع أوزارها إلا بعد أن يَطهَُرَ العالم من آخر "إرهابي" يهدد السلم والأمن الدولي ويمثل خطراً على مكتسبات العالم الجديد !
لكن مادام الإرهابي في نظر أميركا والغرب هو كل من يساند مناهضي العنصرية البغيضة ويحارب من أجل أن يعيش عيشاً كريماً كأي إنسان آخر، وعندما يوصف بالإرهابي كل من يتعاطف مع من يقاوم المحتل الغاشم لأرضه، فنحن جميعاً - وبكل إعتزاز -إرهابيون ونهدد السلم العالمي. وربما تكون أسماء البعض من المحظوظين منا، واردة في اللائحة "الشرفية" السوداء لدى السلطات الأمريكية.